فصل: تفسير سورة النحل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


تفسير سورة النحل

‏{‏أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَى أَمْرُ اللّهِ‏}‏‏.‏ أي قرب وقت إتيان القيامة‏.‏

وعبر بصيغة الماضي تنزيلًا لتحقق الوقوع منزلة الوقوع‏.‏ واقتراب القيامة المشار إليه هنا بينه جل وعلا في مواضع أخر، كقوله‏:‏ ‏{‏اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ‏}‏، وقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ‏}‏، وقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏أَزِفَتْ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

والتعبير عن المستقبل بصيغة الماضي لتحقق وقوعه كثير في القرآن، كقوله‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ‏}‏، وقوله ‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏‏.‏

فكل هذه الأفعال الماضية بمعنى الاستقبال، نزل تحقق وقوعها منزلة الوقوع‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏‏.‏ نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن استعجال ما وعد به من الهول والعذاب يوم القيامة‏.‏ والاستعجال هو طلبهم أن يعجل لهم ما يوعدون به من العذاب يوم القيامة‏.‏

والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة، كقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

والضمير في قوله ‏{‏فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏ في مفسره وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه العذاب الموعد به يوم القيامة، المفهوم من قوله‏:‏ ‏{‏أَتَى أَمْرُ اللّهِ‏}‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يعود إلى الله‏.‏ أي لا تطلبوا من الله أن يعجل لكم العذاب‏.‏

قال معناه ابن كثير‏.‏

وقال القرطبي في تفسيره‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ لما نزلت ‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ‏}‏ قال الكفار‏:‏ إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت? فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون، فأمسكوا فانتظروا فلم يروا شيئًا، فقالوا‏:‏ ما نرى شيئًا‏!‏ فنزلت ‏{‏اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ‏}‏، فأشفقوا وانتظروا قرب الساعة‏.‏ فامتدت الأيام فقالوا‏:‏ ما نرى شيئًا، فنزلت ‏{‏أَتَى أَمْرُ اللّهِ‏}‏ فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وخافوا، فنزلت ‏{‏فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏ فاطمأنوا‏.‏ فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏بعثت أنا والساعة كهاتين ـ وأشار بأصبعيه السبابة والتي تليها‏"‏ اهـ محل الغرض من كلام القرطبي، وهو يدل على أن المراد بقوله ‏{‏فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏ أي لا تظنوه واقعًا الآن عن عجل، بل هو متأخر إلى وقته المحدد له عند الله تعالى‏.‏

وقول الضحاك ومن وافقه‏:‏ إن معنى‏:‏ ‏{‏أَتَى أَمْرُ اللّهِ‏}‏ أي فرائضه وحدوده ـ قول مردود ولا وجه له، وقد رده الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره قائلًا‏:‏ إنه لم يبلغنا أن أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استعجل فرائض قبل أن تفرض عليهم، فيقال لهم من أجل ذلك قد جاءتكم فرائض الله فلا تستعجلوها‏.‏ أما مستعجلوا العذاب من المشركين فقد كانوا كثيرًا اهـ‏.‏

والظاهر المتبادر من الآية الكريمة ـ أنها تهديد للكفار باقتراب العذاب يوم القيامة مع نهيهم عن استعجاله‏.‏

قال ابن جرير في تفسيره‏:‏ وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال‏:‏ هو تهديد من الله لأهل الكفر به وبرسوله، وإعلام منه لهم قرب العذاب منهم والهلاك، وذلك أنه عقب ذلك بقوله سبحانه وتعالى ‏{‏عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ فدل بذلك على تقريعه المشركين به ووعيده لهم اهـ‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ‏}‏‏.‏ أظهر الأقوال في معنى الروح في هذه الآية الكريمة‏:‏ أن المراد بها الوحي‏.‏ لأن الوحي به حياة الأرواح، كما أن الغذاء به حياة الأجسام‏.‏ ويدل لهذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ‏}‏‏.‏

ومما يدل على أن المراد بالروح الوحي إتيانه بعد قوله‏:‏ ‏{‏يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏أَنْ أَنذِرُواْ‏}‏ لأن الإنذار إنما يكون بالوحي، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ‏}‏، وكذلك إتيانه بعد قوله‏:‏ ‏{‏يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ‏}‏‏.‏ لأن الإنذار إنما يكون بالوحي أيضًا‏.‏ وقرأ هذا الحرف ابن كثير وأبو عمرو ‏"‏ينزل‏"‏ بضم الياء وإسكان النون وتخفيف الزاي‏.‏ والباقون بالضم والتشديد‏.‏ ولفظه ‏"‏من‏"‏ في الآية تبعيضية، أو لبيان الجنس‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ أي ينزل الوحي على من اختاره وعلمه أهلًا لذلك‏.‏

كما بينه تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏‏.‏

وهذه الآيات وأمثالها رد على الكفار في قولهم‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ‏}‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ‏}‏‏.‏ الأظهر في ‏"‏أن‏"‏ من قوله‏:‏ ‏{‏أَنْ أَنذِرُواْ‏}‏ أنها هي المفسرة‏.‏ لأن إنزال الملائكة بالروح ـ أي بالوحي ـ فيه معنى القول دون حروفه‏.‏ فيكون المعنى‏:‏ أن الوحي الذي أنزلت به الملائكة مفسر بإنذار الناس ‏"‏بلا إله إلا الله‏"‏ وأمرهم بتقواه‏.‏

وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في آيات كثيرة‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏، وقوله‏)‏ ‏{‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏ وقد قدمنا معنى الإنذار، ومعنى التقوى‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏ بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه هو خالق السموات والأرض، وأن من يخلق هذه المخلوقات العظيمة يتنزه ويتعاظم أن يعبد معه ما لا يخلق شيئًا، ولا يملك لنفسه شيئًا‏.‏

فالآية تدل على أن من يبرز الخلائق من العدم إلى الوجود، لا يصح أن يعبد من لا يقدر على شيء‏.‏ ولهذا أتبع قوله‏:‏ ‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏‏.‏ فدل على أن المعبود هو الخالق دون غيره، وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ‏ وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً‏}‏،وقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏، وقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ‏}‏، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

فهذه الآيات تبين أن الذي يستحق أن يعبد هو من يخلق الخلق، ويبرزهم من العدم إلى الوجود‏.‏ أما غيره فهو مخلوق مربوب، محتاج إلى من يخلقه، ويدبر شؤونه‏.‏

‏{‏خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ‏ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ‏}‏‏.‏ ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة‏:‏ أنه خلق الإنسان من نطفة، وهي مني الرجل ومني المرأة‏.‏ بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً‏}‏ أي أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة‏.‏

وقال صاحب الدر المنثور بعد ذكر بعض الروايات في تفسير الأمشاج بالأخلاط‏:‏ من ماء الرجل وماء المرأة‏.‏ وأخرج الطستي عن ابن عباس‏:‏ أن نافع بن الأزرق قال‏:‏ أخبرني عن قوله ‏{‏مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ‏}‏ قال‏:‏ اختلاط ماء الرجل وماء المرأة إذا وقع في الرحم‏.‏ قال‏:‏ وهل تعرف العرب ذلك‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ أما سمعت أبا ذؤيب وهو يقول‏:‏ كأن الريش والفوقين منه خلال النصل خالطه مشيج

ونسب في اللسان هذا البيت لزهير بن حرام الهذلي، وأنشده هكذا‏:‏

كأن النصل والفوقين منها خلال الريش سيط به مشيج

قال‏:‏ ورواه المبرد‏:‏ كأن المتن والشرجين منه خلاف النصل سيط به مشيج

قال‏:‏ ورواه أبو عبيدة‏:‏ كأن الريش والفوقين منها خلال النصل سيط به المشيج

ومعنى ‏"‏سيط به المشيج‏"‏‏:‏ خلط به الخلط‏.‏

إذا عرفت معنى ذلك، فاعلم أنه تعالى بين أن ذلك الماء الذي هو النطفة، منه ما هو خارج من الصلب، أي وهو ماء الرجل، ومنه ما هو خارج من الترائب وهو ماء المرأة، وذلك في قوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ‏}‏ لأن المراد بالصلب صلب الرجل وهو ظهره، والمراد بالترائب ترائب المرأة وهي موضع القلادة منها‏.‏ ومنه قول امرىء القيس‏:‏ مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجل

واستشهد ابن عباس لنافع بن الأزرق على أن الترائب موضع القلادة بقول المخبل أو ابن أبي ربيعة‏:‏ والزعفران على ترائبها شرقا به اللبات والنحر

فقوله هنا ‏"‏من بين الصلب والترائب‏"‏ يدل على أن الأمشاج هي الأخلاط المذكورة‏.‏ وأمر الإنسان بأن ينظر مم خلق في قوله‏:‏ ‏{‏فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ‏}‏ تنبيه له على حقارة ما خلق منه‏.‏ ليعرف قدره، ويترك التكبر والعتو، ويدل لذلك قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ‏}‏‏.‏

وبين جل وعلا حقارته بقوله‏:‏ ‏{‏أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ‏}‏ والتعبير عن النطفة بما الموصولة في قوله‏:‏

‏{‏مِّمَّا يَعْلَمُونَ‏}‏ فيه غاية تحقير ذلك الأصل الذي خلق منه الإنسان‏.‏ وفي ذلك أعظم ردع، وأبلغ زجر عن التكبر والتعاظم‏.‏

وقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ‏}‏ أظهر القولين فيه‏:‏ أنه ذم للإنسان المذكور‏.‏ والمعنى‏:‏ خلقناه ليعبدنا ويخضع لنا ويطبع‏.‏ ففاجأ بالخصومة والتكذيب، كما تدل عليه ‏"‏إذا‏"‏ الفجائية‏.‏ ويوضح هذا المعنى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ مع قوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً ‏{‏54‏}‏ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏ وسيأتي إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح لهذا المبحث في ‏"‏سورة الطارق‏"‏‏.‏

تنبيه

اختلف علماء العربية في ‏"‏إذا‏"‏ الفجائية‏.‏ فقال بعضهم‏:‏ هي حرف‏.‏ وممن قال به الأخفش‏.‏ قال ابن هشام في ‏"‏المغني‏"‏‏:‏ ويرجح هذا القول قولهم‏:‏ خرجت فإذا إن زيدًا بالباب ‏(‏بكسر إن‏)‏ لأن ‏"‏إن‏"‏ المكسورة لا يعمل ما بعدها فيما قبلها‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هي ظرف مكان‏.‏ وممن قال به المبرد‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هي ظرف زمان‏.‏ وممن قال به الزجاج‏.‏ الخصيم‏:‏ صيغة مبالغة، أي شديد الخصومة‏.‏ وقيل الخصيم المخاصم‏.‏ وإتيان الفعيل بمعنى المفاعل كثير في كلام العرب، كالقعيد بمعنى المقاعد، والجليس بمعنى المجالس، والآكيل بمعنى المؤاكل، ونحو ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏مبين‏"‏ الظاهر أنه اسم فاعل أبان اللازمة، بمعنى بان وظهر‏.‏ أي بين الخصومة‏.‏ ومن إطلاق أبان بمعنى بان قول جرير‏:‏ إذا آباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب

أي ظهر‏.‏ وقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي‏:‏ لو دب ذر فوق ضاحي جلدها لأبان من آثارهن حدود

يعني لظهر من آثارهن ورم في الجلد‏.‏ وقيل‏:‏ من أبان المتعدية والمفعول محذوف‏.‏ أي مبين خصومته ومظهر لها‏.‏ والعلم عند الله تعالى‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏‏.‏ ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة‏:‏ أنه خلق الأنعام لبني آدم ينتفعون بها تفضلًا منه عليهم‏.‏ وقد قدمنا في ‏"‏آل عمران‏"‏ أن القرآن بين أن الأنعام هي الأزواج الثمانية التي هي الذكر والأنثى من الإبل، والبقر، والضأن، والمعز‏.‏ والمراد بالدفء على أظهر القولين‏:‏ أنه اسم لما يدفأ به، كالملء اسم لما يملأ به، وهو الدفاء من اللباس المصنوع من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها‏.‏‏.‏

ويدل لهذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ‏}‏ وقيل‏:‏ الدفء نسلها‏.‏ والأول أظهر‏.‏ والنسل داخل في قوله ‏{‏ومنافع‏}‏ أي من نسلها ودرها ‏{‏وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏‏.‏

ومنافع الأنعام التي بين الله جل وعلا امتنانه بها على خلقه في هذه الآية الكريمة، بينها لهم أيضًا في آيات كثيرة، كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ‏}

{‏وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ‏}‏ إلى غيرذلك من الآيات‏.‏

والأظهر في إعراب ‏{‏والْأَنْعَامِ‏}‏ أن عامله وهو ‏{‏خُلِقَ‏}‏ اشتغل عنه بالضمير فنصب بفعل مقدر وجوبًا يفسره ‏"‏خلق‏"‏ المذكور، على حد قول ابن مالك في الخلاصة‏:‏ فالسابق انصبه بفعل أضمرا حتما موافق لما قد أظهر

وإنما كان النصب هنا أرجح من الرفع لأنه معطوف على معمول فعل، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ‏}‏، فيكون عطف الجملة الفعلية على الجملة الفعلية أولى من عطف الإسمية على الفعلية لو رفع الاسم السابق‏.‏ وإلى هذا أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله عاطفًا على ما يختار فيه النصب‏:‏ وبعد عاطف بلا فصل على معمول فعل مستقر أولا

وقال بعض العلماء‏:‏ إن قوله ‏{‏والأنعام‏}‏ معطوف على ‏{‏الإِنسَانَ‏}‏ من قوله ‏{‏خَلَقَ الإِنسَانَ‏}‏ والأول أظهر كما ترى‏.‏

وأظهر أوجه الإعراب في قوله ‏{‏وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏ أن قوله ‏{‏دِفْءٌ‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏لَكُمْ فِيهَا‏}‏ وسوغ الابتداء بالنكرة اعتمادها على الجار والمجرور قبلها وهو الخبر كما هو معروف‏.‏ خلافًا لمن زعم أن ‏{‏دِفْءٌ‏}‏ فاعل الجار والمجرور الذي هو ‏{‏لكم‏}‏‏.‏

وفي الآية أوجه أخرى ذكرها بعض العلماء تركنا ذكرها لعدم اتجاهها عندنا، والعلم عند الله تعالى‏.‏

وقوله في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ‏}‏ يعني أن اقتناء هذه الأنعام وملكيتها فيه لمالكها عند الناس جمال‏.‏ أي عظمة ورفعة، وسعادة في الدنيا لمقتنيها‏.‏ وكذلك قال في الخيل والبغال والحمير ‏{‏لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً‏}‏ فعبر في الأنعام بالجمال، وفي غيرها بالزينة‏.‏ والجمال‏:‏ مصدر جمل فهو جميل وهي جميلة‏.‏ ويقال أيضًا‏:‏ هي جملاء‏.‏ وأنشد لذلك الكسائي قول الشاعر‏:‏ فهي جملاء كبدر طالع بذت الخلق جميعًا بالجمال

والزينة‏:‏ ما يتزين به‏.‏ وكانت العرب تفتخر بالخيل والإبل ونحو ذلك‏.‏ كالسلاح‏.‏ ولا تفتخر بالبقر والغنم‏.‏ ويدل لذلك قول العباس بن مرداس يفتخر بمآثر قبيلته بني سليم‏:‏ واذكر بلاء سليم في مواطنها ففي سليم لأهل الفخر مفتخر

قوم هم نصروا الرحمن واتبعوا دين الرسول وأمر الناس مشتجر

لا يغرسون فسيل النخل وسطهم ولا تخاور في مشتاهم البقر

إلا سوابح كالعقبان مقربة في دارة حولها الأخطار والعكر

والسوابح‏:‏ الخيل‏.‏ والمقربة‏:‏ المهيأة المعدة قريبًا‏.‏ والأخطار‏:‏ جمع خطر ـ بفتح فسكون، أو كسر فسكون ـ وهو عدد كثير من الإبل على اختلاف في قدره‏.‏ والعكر ـ بفتحتين ـ‏:‏ جمع عكرة، وهي القطيع الضخم من الإبل أيضًا على اختلاف في تحديد قدره‏.‏ وقول الآخر‏:‏ لعمري لقوم قد ترى أمس فيهم مرابط للأمهار والعكر الدثر

أحب إلينا من أناس بقنة يروح على آثار شائهم النمر

وقوله‏:‏ ‏"‏العكر الدثر‏"‏ أي المال الكثير من الإبل‏.‏ وبدأ بقوله‏:‏ ‏{‏حِينَ تُرِيحُونَ‏}‏ لأنها وقت الرواح أملأ ضروعًا وبطونًا منها وقت سراحها للمرعى‏.‏

وأظهر أوجه الإعراب في قوله‏:‏ ‏{‏وَزِينَةً‏}‏ أنه مفعول لأجله، معطوف على ما قبله‏.‏ أي لأجل الركوب والزينة‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويخلق ما لا تعلمون‏}‏‏.‏ ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يخلق ما لا يعلم المخاطبون وقت نزولها، وأبهم ذلك الذي يخلقه لتعبيره عنه بالموصول ولم يصرح هنا بشيء منه، ولكن قرينة ذكر ذلك في معرض الامتنان بالمركوبات تدل على أن منه ما هو من المركوبات، وقد شوهد ذلك في إنعام الله على عباده بمركوبات لم تكن معلومة وقت نزول الآية، كالطائرات، والقطارات، والسيارات‏.‏

ويؤيد ذلك إشارة النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في الحديث الصحيح‏.‏ قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه‏:‏ حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث، عن سعيد بن أبي سعيد، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة أنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏والله لينزلن ابن مريم حكمًا عادلا فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد‏"‏ اهـ‏.‏

ومحل الشاهد من هذا الحديث الصحيح ـ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها‏"‏ فإنه قسم من النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه ستترك الإبل فلا يسعى عليها، وهذا مشاهد الآن للاستغناء عن ركوبها بالمراكب المذكورة‏.‏

وفي هذا الحديث معجزة عظمى، تدل على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم وإن كانت معجزاته صلوات الله عليه وسلامه أكثر من أن تحصر‏.‏

وهذه الدلالة التي ذكرنا تسمى دلالة الاقتران، وقد ضعفها أكثر أهل الأصول، كما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله‏:‏ أما قران اللفظ في المشهور فلا يساوي في سوى المذكور

وصحح الاحتجاج بها بعض العلماء‏.‏ ومقصودنا من الاستدلال بها هنا أن ذكر ‏{‏ما لا تعلمون‏}‏ في معرض الامتنان بالمركوبات لا يقل عن قرينة دالة على أن الآية تشير إلى أن من المراد بها بعض المركوبات، كما قد ظهرت صحة ذلك بالعيان‏.‏

وقد ذكر في موضع آخر‏:‏ أنه يخلق ما لا يعلمه خلقه غير مقترن بالامتنان بالمركوبات، وذلك في قوله ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏‏.‏ اعلم أولًا ـ أن قصد السبيل‏:‏ هو الطريق المستقيم القاصد، الذي لا اعوجاج فيه، وهذا المعنى معروف في كلام العرب‏.‏ ومنه قول زهير بن أبي سلمى المزني‏:‏ صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله وعرى أفراس الصبا ورواحله

وأقصرت عما تعلمين وسددت علي سوى قصد السبيل معادله